الكبار أيضاً يموتون. موجِعون هُم في رحيلِهم. يتفجّعُ كثيرون عليهم. يموتون فجأة من دون سابق إنذار، وفي ميتاتهم قواسمُ مشتركة.
هُم في غالبيّتهم يموتون قتلاً وليس مرضاً أو عجزاً. هذا ما حدثَ لرينيه معوّض وبشير الجميّل ورفيق الحريري ورشيد كرامي وكمال جنبلاط وحسن نصرالله.
وعندما يموتون يُحدثون فراغاً كبيراً في بيئاتِهم، وضياعاً في بوصلة مجتمعاتهم، لكن لبنان كلَّه يتأثّر بالفراغ. لم يملأ أيُّ زعيمٍ سُنّي الفراغ الذي أحدثَه اغتيال الحريري، ولا جاء المسيحيّين زعيمٌ أنسى الناس بشير الجميّل. في غالب الأحيان تختبر بيئاتُهم ضياعاً لافتاً، تملؤه أحداثٌ أقلّ أهميّة من حدث الرحيل، لكن هذه الأحداث غالباً ما تكون حجارة مرصوفة على طريق الوصول إلى الهدف من وراء الإغتيال.
يموت هؤلاء من دون قدرة الأجهزة الأمنيّة على الوصول إلى القاتل. وإذا تمّ الوصول إليه، لا تأخذ العدالة مجراها. أين الذين اغتالوا رينيه معوّض أو كمال جنبلاط أو غيرهما! تكون الحبكة محكّمة بقوّة فينقطع حبل التحقيق في مكانٍ ما، وفجأة تختفي الأدلّة.
عندما يرحلُ الكبار في أحداثٍ دراميّة يكون الّلوم على أشدّه على من حالف هذا الكبير وأعطاه الكثير. أليس هذا ما حدث عند اغتيال كمال جنبلاط؟ أوَلم يكن العتبُ الصامت على سوريّا في ذروته، وهي التي كانت شريكة الحركة الوطنيّة في حرب السنتين على الرغم من خلافاتها مع "أبو عمّار"؟ أَوَليس هذا ما يحدثُ الآن؟ هناك أسئلة كثيرة حول إيران ودورها المحدود في إسناد حزب الله في معركته مع العدو.
الكبار، عندما يموتون تبدأ مرحلةُ جديدة على مستوى الوطن. هُم أبناء بيئاتهم بالطبع، لكن نتائج اغتيالهم تكون على كلّ لبنان. يأتي الاغتيال مقدّمةً إلزاميّة للمرحلة التالية. مع اغتيال رينيه معوّض بدأت مرحلة ضرب الطائف، ومع اغتيال بشير الجميّل بدأت نتائج الاجتياح الإسرائيلي في الـ 82 تنحسر وتتراجع، ومع اغتيال رفيق الحريري بدأت مرحلة إنكفاء الدور السوري في لبنان وانسحاب الجيش السوري من البلد. ليس واضحاً حتّى الآن ما هي المرحلة التي ستبدأ مع اغتيال السيّد حسن نصرالله، لكن اغتيالاً بهذا الحجم الزلزالي لا يمكن أن يحدث من دون رؤيا تتّفق عليها مسبقاً أطرافٌ متناقضة.
وعندما يموت هؤلاء يتحوّلون رمزاً. من مِثلُ كمال جنبلاط في وجدان دروز لبنان وسوريا وفلسطين، ومن مثلُ بشير الجميّل في وجدان المسيحيّين، ومن مثل رفيق الحريري في وجدان السُنّة؟ لا أحد. ومن سيُنسي الشيعة حسن نصرالله؟ لا أحد. هؤلاء يُصبحون رمزاً دائماً في أذهان الناس وقلوبهم.
لكن القاسم المشترك بين رحيل الكبار والذي يوجعُني كثيراً هو عدم قدرتهم على تحقيق شيءٍ للوطن ككل وليس لمجتمعاتهم فقط. البعضُ ربّما حاول وأراد لكن الاغتيال سبقَ النتائج، والبعض الآخر فكّر أكثر ببيئتِه فقط. في الحالتين لم يتخطّ أيٌّ منهم مساحة مجتمعه لسببٍ أو لآخر. لم يستفد لبنان كفايةً من مشروعٍ يُجمع عليه اللبنانيّون. ربّما لم يتسنَّ له الوقت الكافي لتسويق مشروعه، أو هوَ لم يُعِر سائر اللبنانيّين اهتماماً كافياً، أو هو لم تكن لديه الرؤيا الكاملة لوحدة لبنان المتنوّع. ربّما كانت النيّات صافية، لكن المشروع لم يعمَّ أرجاء الوطن.
يرحل الكبار لكن الأسئلة تراوح مكانها، واللاجواب يبقى سيّد المواقف.
سمير قسطنطين | النهار